مشاهدات من أوزبكستان 2
لماذا لم تواصل أوزبكستان التطورات الهائلة التي كانت قد حققتها خلال القرنين الـ 15 و الـ 16 في مجالات العلوم و التعليم و الثقافة و الحضارة؟ ولماذا ظل العالم التركي والإسلامي في القرون اللاحقة بعيداً جداً عن مثل هذا العقل اللامع؟
نود أن نقدم تقييماً حول هذا الموضوع بقلم الأستاذ الدكتور قُدرت بُلبُل عميد كلية العلوم السياسية في جامعة يلدريم بايزيد بأنقرة.
أهمية العلوم والتاريخ والسياسة أو الاستقرار السياسي
إن " الأمير تيمور" يعني الشيء الكثير بالنسبة للأوزبك. ويمكن إطلاق إسم بلاد تيمور على أوزبكستان. إن تيمور كان قد دعا في عهد حكمه الكثير من العلماء إلى بلاده. والكثير من المعالم التاريخية الموجودة اليوم في بخارى و سمرقند كانت قد شُيدت في عهد تيمور. و الرئيس الأول لدولة أوزبكستان إسلام كريموف لم يُفضِّل إبراز نفسه إلى الواجهة بل فضّل إبراز تيمور و الآثار المشيدة في عهده إلى الأمام.
إن حدود الدولة في عهد تيمور كانت تمتد من إزمير إلى الهند. و تيمور الذي تسبب في عيش الدولة العثمانية عهداً من الإنحطاط كان قد قضى أيضاً على دولة " آلتن أوردو". وبسبب الإفتقار إلى آلية الدولة اللازمة لإدارة مثل تلك الرقعة الجغرافية الشاسعة، بدأت دولة تيمور بالإنهيار أعقاب وفاته عام 1405. وخلال فترة قصيرة تمكنت الدولة العثمانية من تجديد نفسها و إستعادة عافيتها و مواصلة طريقها. بيد أن الروس ملأوا الفراغ الحاصل في أراضي دولة " آلتن أوردو". و قد صار تيمور هدفاً للإنتقادات لإتهامه بالتسبب في ولادة الإمبراطورية الروسية جراء ذلك الفراغ الذي خلقه.
و على الرغم من الإقدام على خطوات علمية هائلة في عهد تيمور و ما بعده، لوحظ لاحقاً تعذر مواصلة تلك المسيرة. و السبب الأهم لذلك يتعلق بالإستقرار السياسي. إذ أنه بغياب الاستقرار السياسي يتعذر إدامة العلوم و التعليم و الفن و الثقافة و الحضارة. و يمكن أن نرى مثالاً أليماً لمثل هذا الوضع في قصة " أولوغ بي" حفيد تيمور. و على الرغم من أنه كان رئيساً للدولة و فلكياً وعالماً بارزاً في عصره ، فقد تمرد عليه إبنهُ ، و إضطر على الإستسلام لإبنه بعد هزيمته أمامه. و بعد تنازله عن العرش أراد حج بيت الله ، و سُمح له بذلك. غير أنه قُتل بأمر من إبنه فور مغادرته سمرقند. و بعد أشهر قُتل إبنه أيضاً عل يد جنوده.
و في ظل أجواء الغموض و إنعدام الثقة آنذاك، لم يعد بالإمكان إدامة أي شيء. إن السبب الأهم للمشكلة التي أشرتُ إليها في مستهل هذا التقييم هو إنعدام الاستقرار السياسي. و يمكن في أوزبكستان الفهم الأفضل للأهمية التي يوليها علماء أهل السنة للإستقرار السياسي ، و ذلك لأنه بغياب الدولة يغيب كل شيء. كما أن الاستقرار السياسي كان السبب الأهم لإكساب الديمومة لمؤسسات الدولة العثمانية.
تنظيم فتح الله الإرهابي (FETÖ)
إن أوزبكستان أدركت قبل تركيا مدى التهديد الكبير الذي يشكله تنظيم فتح الله غولن الإرهابي. ففي عام 1999 أغلقت أوزبكستان جميع مدارس هذا التنظيم في البلاد وطردت المعلمين الذين كانوا يعملون في تلك المدارس بتهمة كونهم عملاء. وقد أفيد بأن هذا التنظيم الإرهابي كان قد قام أولاً بمحاولة إنقلابية فاشلة في أوزبكستان قبل محاولته الإنقلابية الفاشلة التي أقدم عليها في تركيا عام 2016. و بفضل تصوراتنا لأوزبكستان في عالمنا الذهني وما إستمعنا إليه خلال زيارتنا لهذا البلد ادركنا على نحو أفضل الأضرار التي ألحقها تنظيم فتح الله غولن الإرهابي بالعلاقات التركية – الأوزبكستانية.
البخاري وشاه نقشبند والماتريدي
من غير شك لا يمكن كتابة مقال عن أوزبكستان دون التطرق إلى البخاري و النقشبندي و الماتريدي. فهذه الشخصيات تُشكل جذوراً للرأي الإسلامي المتصدي للتطرف و الرافض للنبذ و التهميش ، و أرى أنه ينبغي أن تكون هذه الشخصيات موضوعاً لمقال آخر، و أكتفي هنا بالإشارة إلى أن الأوزبكيين يولون أهمية كبيرة لأضرحة هؤلاء الأعلام .
اللغة التركية والعالم التركي
لو أردنا الحقيقة ليس من العسير تكثيف الإتصال و التفاهم بين الدول الناطقة بالتركية. وثمة ثلاث خطوات أساسية من شأنها تسهيل تفاهمنا على نحو أفضل.
الخطوة الأولى هي إستخدام الحروف اللاتينية. إن أوزبكستان إنتقلت إلى إستخدام هذه الحروف و كذلك كازاخستان و أذربيجان. غير أنه يتم أحياناً إستخدام الحروف الكريلية أيضاً في هذه الدول. و إن إستخدام الأحرف اللاتينية سيُسهل فهم النصوص المكتوبة.
الخطوة الثانية تتمثل بالإستخدام الأكثر للكلمات العائدة إلى ما قبل مئة عام. فخلال القرن الأخير تأثر أتراك تركيا من اللغتين الإنجليزية و الفرنسية ، فيما تأثر الأتراك الآخرون من اللغة الروسية. ولو لجأنا جميعاً إلى التحدث بلغة أجدادنا سنستطيع التفاهم بسهولة أكثر. إن أحاديث و ثياب المسنين في أوزبكستان كانت شبيهة جداً بأحاديث و ثياب أجدادي و على نحو أحسستُ فيه و كأنني في زيارة لهؤلاء الأجداد.
الخطوة الثالثة هي أن اللغة التركية المستخدمة في تركيا تُقرأ كما تُكتب و تُكتب كما تُقرأ ، و هذا يُكسب السهولة للغة. و إن القيام بمسعى مماثل في اللغات الأخرى سيُسهل التفاهم. و حالياً فإن التفاهم ليس بأمر عسير لو كنتم تعرفون شيئاً من التركية القديمة.
إفتتاح فروع للجامعات التركية
إن جميع الذين إلتقينا بهم أكدوا بإصرار على ضرورة فتح فروع للجامعات التركية في أوزبكستان على نحو عاجل ، و قالوا بأن الرئيس بوتين زار بلادهم مع وفد يضم 150 من رؤساء الجامعات. كما أن الجامعات الغربية إفتتحت فروعها هناك منذ فترة طويلة. و لو كان ثمة عراقيل قانونية أمام إفتتاح فروع للجامعات التركية في أوزبكستان ينبغي إزالة هذه العراقيل. و يتعين عاجلاً حث جامعات تركية معينة على إفتتاح فروع لها في أوزبكستان ، إذ أن روسيا و الدول الغربية قطعت أشواطاً هامة بهذا الخصوص ، و لهذا يجب تحقيق هذا الأمر دون مزيد من التأخير.
تركيا الثانية
إن ماشاهدته في أوزبكستان هو أشبه بتركيا ثانية. فالزائر لهذا البلد يشعر براحة وسعادة و كأنه إكتشف تركيا ثانية. ويمكن أن نطلق على تركيا أيضاً إسم أوزبكستان ثانية بحكم كون هذا البلد موطناً لأجدادنا.
رموز العقل تركيا المتبلورة في الغرب
قبل توجهي إلى أوزبكستان كنتُ قد إلتقيت بالطلبة الأوزبكيين الذين أفادوا لي بأن الناس في تركيا حساسون أكثر نحو الغرب و إنهم يكادون يتجاهلون التطورات الجارية في الشرق.
و بفعل تأثرنا العميق ببخارى و سمرقند ، وبعد عودتي من هناك أدركت على نحو أفضل ما أراد قوله هؤلاء الطلبة. و هذا الأمر يتضح ببساطة من خلال إلقاء نظرة على الحيز الذي تخصصه وسائل الصحافة و الإعلام للعالم التركي. فهذه الوسائل تكاد لا تتحدث عن العالم التركي في البرامج الرياضية و الفنية و الأدبية. و لنسأل انفسنا السؤال التالي : بينما نعلم الكثير عن الرياضة الغربية و الرياضيين الغربيين ، كم عدد الرياضيين المعروفين لدينا من العالمين التركي و الإسلامي؟ و في حين هناك في باقة البث التلفزيوني عبر الكيبل الكثير من القنوات الغربية ، فإن عدد قنوات العالم التركي في هذه الباقة يكاد أن يكون معدوماً.
إن قلة الاهتمام بوطن الأجداد أمر مؤسف حقاً. في حين أن هناك الكثير من الأشياء البسيطة التي يمكنها أن تدفع العالمين التركي و الإسلامي إلى أجندتنا على نحو أكثر. و على سبيل المثال يمكن من خلال نشاطات رمزية تحقيق الشيء الكثير بهذا الخصوص من قبيل تنظيم سباقات رياضية سنوية بين أبطال أندية العالم التركي تحت مظلة المجلس التركي و سباقات مماثلة تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي.
إن بلورة إطار عالمنا الذهني على نحو يقتصر على الغرب ستؤدي إلى تصغير تركيا. كما إن تركيا ستخسر الشيء الكثير في حال فصلها عن جذورها التاريخية. و إن هذا الطراز من تركيا حتى و إن إنضمت إلى الإتحاد الأوروبي فإنها ستجعل نفسها بلداً عادياً من بلدان الإتحاد. أما لو إهتمت تركيا بالعالمين التركي و الإسلامي و بأفريقيا بقدر إهتمامها بالغرب فإنها ستجد ذاتها. و عند ذلك فإنها ستحقق رؤاها و ستُكسب الكثير لنفسها و لمنطقتها و للعالم.